شجـــرة الصفصــاف
قصة قصيــرة :
جاءت جلسته بجوار نافذة القطار، حمد الله كثيرا فهي بالنسبة له شاشة تريه العالم اللامتناهي جماله من خلق الله، أفلام صامته يراها، تترجمها الذكريات. توقف القطار بلا إنذار أمام أحد الحقول، شاهدهما، فتى وفتاة ، رفع الفتى على رأسها حملا ثقيلا مكونا من تجمع عيدان البرسيم، انثنت قدميها من ثقله، سقطت أرضاً، سقط البرسيم عليها، لاحقت الفتاة فتاها بحزمة من أعواد البرسيم، تضاحكا.
أرجع ما رآه البسمة إلى شفتيه، لاحظت الفتاة أنه يراقبهما من نافذة القطار، رفعت يدها محيية، تمني لو طالت وقفت القطار، لاحقهما بنظراته، صارا بعضا من اطلال.
أرجعه تكوين الفتاة عشرة أعوام، لا فرق بينها وبين محبوبته.. أزهار.. كانا متجاوران فى الحقل ، تجاور أرضها أرضه ، فتجاور قلبيهما، كانت خضراء العينين صافيةً ، ملساء الخدين موردةُ، هيفاء تغازل خصلاتها فروع الشجر، بيضاء تشكوها الفراشات للقمر، جلسا يوماً معاً تحت ظل ظليل للشجر، تجمعهما نفس البسمة، قلبيهما يراقص أحدهما الآخر وهو ما زال فى مكانه يسكن ، بين الضلوع ولم يفارق ، كانا بريئين فلم يعرفا طعم العناق، فكيف يتعانقان وهما ليسا باثنان، كانت غنوتها مكررة .. يا بهية خبريني......، يسمعها كل يوم بلحن جديد، لحن مصدره عينيها .. ولحن مصدره شفتيها.. ولحن مصدره........،
عشرة أعوام منذ أن طرد من قريته، يهيم علي وجهه في الطرقات، تأخذه دار من دار، يذهب به شارع إلي شارع، تمني لو ذهب به القطار إلي حيث واحة التمني – قريته – يخترق شوارعها، جميع ركابه يشهدون علي ما يلاقي من هوان، حتما جميعهم يعرفه من كثرة الترحال، يدرك أن أزهار مازالت هناك، تنتظر عودته، لتعلن انه غير مذنب، الدليل نبتة زرعاها، صارت شجرة تحكي للغادي والرائح، قصة حبهما العذرى: كانا يلعبان سوياً ، يقوم هو بدور اللص، وهى حارس الأرض كان سلاحها فرع من شجرة الصفصاف المزروعة بارضه، فجأة توقف اللص شاهرا سيفه (المحشه) لم يكن يدرى أن أزهار خلفة ترقض، سكن السيف باحدى حجرات القلب. نسى وعده لها بأن لا يجمعهما العناق، بين زراعيه إحتضنها، كان الحضن الوحيد الذى جمع بين جسديهما منذ فرق بينهما الحياء. سقطت متكئة علي فرع الصفصاف، كونت القطرات بركة دماء اسفل الفرع، كانت رية الانبات، واصلت دموعه بعد ذلك رعايته. جاء حكم القاضي قاسيا : خمسة أعوام في بيت الأحداث، كان حكم قريته اقسي: حياة دائمة الترحال بلا رجعة ( يجب أن يترك القرية) .
وقف القطار أمام طريق مترب مؤدى لقريته، تصور ان عشرة أعوام من الشوق كفيلة بتجفيف بحور الاحزان. رفض أبوه استقباله قائلاً: الرحيل يا ولدى، ليبقي الرماد علي النار مهدئها، انتزعه والده من أحضان أمه، وأن بقي حضن الدموع.
قرر أن يذهب إلى بيت آخر – بيت أزهار – لم تعرفه أمها، فقد جففت كثرة الدموع على أزهار مآقيها، صار ابيها في الحياة زاهدا بعد ابنته الوحيدة، لم يبقي سواها – شجرة الصفصاف- ذهب إليها، خاطبها: هل يقتل انسان نفسه؟.. يمر الريح فتهتز. إحتضنها بين زراعيه، صعب على زراعيه الضعيفة احتواء الجذع العنيد، صعد إلى أفرع الشجرة ، وهو يناجى أزهار، تجمع أهل القرية ، واصل الصعود. يحذره والده: توقف، الأفرع التالية غضة، يصعب عليها تحملك، يواصل الصعود، ينتبه علي صوت والد أزهار: السماح يا ولدى، وكانت فرحة الغفران التي صعب علي الأفرع الغضة أن تتحملها.
... تمت ...
بقلم / أسماعيل عبد المالك
الفاهرة فى 11 أبريل 2010